Tuesday 29 March 2011

أريد زوجا






التقيتها صدفة بعد سنوات من الغياب في أحد المؤتمرات العلمية. كان آخر عهدي بها على مقاعد الدراسة، أيام الجامعة. في تلك الفترة كانت قد تعرفت على أحد الشبان و تمت خطبتها. سمعت فيما بعد أنها تزوجت في الصائفة الموالية لتخرّجنا و إن لم تكن قد وجهت إلي الدعوة. قبل أن أبادرها بالتهنئة حانت مني التفاتة إلى البطاقة التي تحمل اسمها و التي علقتها على صدرها. لم تكن قد غيرت لقبها العائلي. نظرت إلى أصابع كفها اليسرى علني أجد دليلا على زواجها في بنصرها، لكنها لم تكن تلبس خاتم زواج، بل أن خاتم الخطبة الذي كانت تتباهى بأحجاره الماسية كان قد اختفى. ارتبكت... هل أهنئها أم أحجم؟ ماذا لو كانت تهنئتي في غير محلها؟ بعد تردد قصير، بادرتها بالسؤال عن الأحوال و كل جديد في حياتها. فلم تتردد هي، أخبرتني بأنها انفصلت عن زوجها منذ أكثر من سنتين، و قد حصلت على حكم الطلاق منذ فترة وجيزة... كانت تحاول التماسك و التظاهر باللامبالاة، لكن لم يخف علي انكسارها و ما خلفته تلك التجربة المريرة في نفسها من جراح.

حين ابتعدت عنها كان في نفسي بعض الحزن من أجلها. عادت إلى ذهني بعض الذكريات القديمة، حين التقيت خطيبها للمرة الأولى... كنت أهم بطرق باب غرفتها في السكن الجامعي حين وجدت الباب يفتح. رأيته يخرج من عندها مبتسما ويقف منتظرا أن تقوم هي بتعريف أحدنا بالآخر. رأيت علامات الارتباك على وجهها، و لمحت هي حمرة الغضب في عيني. و حال دخولي إلى الغرفة رأيت بقايا الأكل على مائدة الطعام. كانت قد دعته على الغداء، و طبخت له الأصناف التي يحبها. صرخت في وجهها :
ـ دعوته على الغداء في غرفتك؟ أنت و هو و لا أحد غيركما؟

هتفت مطمئنة :
ـ لا تخافي... لم يحصل بيننا شيء !

تنهدت في مرارة. ربما كانت هي ترجو أن يحصل شيء ما في تلك الخلوة؟ ربما... لكن أيا من جهودها لم تكن قد أثمرت بعد. قالت في خيبة :
ـ أرجو أن يتقدم لخطبتي قبل نهاية العام... نحن متفقان كثيرا، لكنه لم يصارحني بعد برغبته في الارتباط. كنت أتمنى أن تفك جلسة اليوم عقدة لسانه...

ألقيت نظرة من حولي. نعم من حقها أن تتمنى ذلك، فجهودها في ترتيب المكان و تهيئته كانت جديرة بالثناء. و لم تكن مجهوداتها في تجميل وجهها و هندامها بأقل منها. أمسكت بيدها و دعوتها إلى الجلوس و أنا أقول في رثاء :
ـ لماذا تفعلين كل هذا؟ لو كان راغبا في خطبتك لما احتاج إلى تشجيع من طرفك. كوني غالية في نظر نفسك لتكوني غالية في عينيه !

أخفت وجهها بين كفيها و هي تجهش بالبكاء :
ـ لم أعد أستطيع التحمل. أريد زوجا ! الوحدة قاسية، و الناس لا يرحمون. حين أعود إلى منزل والدي في الأجازات، فالسؤال الوحيد المتكرر من نساء العائلة هو : متى نفرح بزواجك؟ مع اقتراب تخرجي أصبح ذلك هو الشغل الشاغل للجميع، لا ينتظرون سوى أن أبشرهم بالعريس، كأنه النتيجة الطبيعية لحصولي على الشهادة الجامعية... فإن لم يأت العريس إلي، فعلي أن أجلبه بشتى الوسائل !

لذلك حين انفكت عقدة لسانه و قرر خطبتها أخيرا، كانت في غاية السعادة. خاصة أنها وجدت في شريكها كل الصفات التي تحلم بها... حسب و نسب و ثراء و وسامة، كما أن عائلتها كانت متحمسة للصفقة ـ أقصد الزيجة. أذكر حينها أني سألتها عن مستوى التزام خطيبها الديني و إن كنت قد أخذت فكرة مسبقة من لقائنا الأول. لم يكن بالملتزم، لكنه شاب مستقيم و من عائلة محافظة... هكذا وصفته. هي لم تكن بالملتزمة دينيا أيضا، لكنها كانت تحاول الانضباط في الصلاة و حين تحدثنا ذات مرة عن الحجاب قالت أنها تفكر في الأمر لكنها غير مستعدة بعد. ظننت حينها أنهما متكافئان من الناحية الدينية، و من يدري، لعل أحدهما يأخذ بيد الآخر و يرتقيان معا...

بعد فترة وجيزة، كنا نستعد مع بعض الطالبات الأخريات للذهاب إلى صلاة التراويح. جاءت تستعير وشاحا و ملابس فضفاضة مني. و بعد أن لبستها، نظرت إليها مبتسمة و أثنيت على شكلها في تلك الهيئة... لكن بدل أن تظهر علامات الانشراح على وجهها انقلبت سحنتها و هي تقول :
ـ لقد صرفت النظر عن الحجاب على أية حال... فخطيبي ضده تماما...

نظرت إليها في دهشة :
ـ خطيبك ضده؟ هل يعني ذلك أن رغباته ستصبح مسلمات لديك حتى إن كانت متعارضة مع قناعاتك؟ راجعي نفسك جيدا قبل المضي في مسألة الارتباط، فربما لا يكون الشخص المناسب لك، و ربما كانت توجهاتكما مختلفة بصفة حادة مما يكون سببا في مشكلات عميقة في المستقبل...

قاطعتني بلهجة حاسمة :
ـ توجهاتنا ليس مختلفة بالقدر الذي تتصورينه... فأنا كنت مترددة بشأن الحجاب و لم أكن على اقتناع تام، و موقفه ساعدني على اتخاذ القرار... لا غير.

تمنيت في قرارة نفسي أن تنفصل عنه. كانت في حاجة إلى من يشجعها على الالتزام، لكنها وقعت على من يشدها في الاتجاه المعاكس. و جاءت صور حفل الخطبة لتؤكد توقعاتي. كانت تريد زوجا، و كانت مستعدة لتقديم أية تنازلات حتى تحصل على صورة لامعة في ثوب الزفاف الأبيض و إلى جانبها رجل وسيم يثير حسد قريباتها. و ها أنها قد حصلت على كل ذلك، لكن لفترة وجيزة. لم أسألها عن أسباب الانفصال حتى لا أنكأ جراحها، لكن الشكل الذي رأيتها عليه في المؤتمر يجعلني أستبعد أن تكون القناعات الدينية قد لعبت دورا فيه.

أدعو لها من كل قلبي أن تجد طريقها و أن تستيقظ من غفلتها بعد تلك التجربة المريرة. صحيح أن الوحدة قاسية، لكنها بلا شك خير من شريك السوء...

إن من يترك طاعة الله في سبيل رضا البشر، لا يمكن أن يرزقه الله البركة، لكن من يترك شيئا لله يعوضه الله خيرا منه.

Friday 24 December 2010

حديث الوسائد






(1)

اقتربت من الغرفة على رؤوس أصابعها و ألقت نظرة عبر الباب نصف المفتوح. كان لا يزال منكبا على دفاتره و حاسوبه المحمول، لم يبد عليه الانتباه لوجودها. تنهدت بصوت مكتوم، ثم ابتعدت في صمت. أطفأت التلفاز الذي صارت تسامره وحيدة في الأيام الأخيرة، ثم جرت قدميها باتجاه غرفة النوم. ألقت بجسدها المرهق على السرير و غطت رأسها باللحاف، لتخنق العبرات التي عادت لتسيل على وجنتيها في سكينة. هل يستحق الخلاف الذي نشأ بينهما كل هذه القطيعة؟ بالكاد يتبادلان بضع كلمات في اليوم، منذ ارتفعت أصواتهما ذلك المساء في شجار عنيف. هو المخطئ ! أحرجها بملاحظاته السمجة أمام أخواته... فكان عليها أن ترد اعتبارها. كلمة من هنا، و أخرى من هناك... فإذا بالوضع ينفجر بينهما و تزداد الأمور سوءا يوما عن يوم. لكن لا... عليه أن يعتذر أولا. لن تقبل لذلك بديلا !

بعد دقائق قليلة، أحست بخطواته في الغرفة. كتمت أنفاسها و تظاهرت بالنوم. استلقى إلى جانبها موليا إياها ظهره، دون أن ينطق بكلمة واحدة. بعد لحظات من السكون، أحست به يتقلب في مكانه و يسحب اللحاف. يجافيه النعاس هو الآخر. أصبح الوضع ثقيلا على كليهما. علاقتهما تزداد فتورا و توترا... لكن لا أحد يبادر بالاعتذار و التنازل.

لا تدري كم مضى من الوقت قبل أن تهدأ تماما و يثقل النوم جفنيها. حين فتحت عينيها في الصباح، كانت أشعة الشمس قد تسللت عبر الستائر الخفيفة. تلفتت حولها في ذعر... فاتتها صلاة الفجر ! نظرت إلى المكان الخالي على السرير و تنهدت. لم يوقظها. دفعت عنها اللحاف في حزن و وقفت من فورها. نهار جديد من التعاسة...

(2)

ألقت نظرة على سرير طفلتها التي غطت في النعاس منذ ساعتين تقريبا. ابتسمت و هي تسوي لحفاها من جديد، بعد أن تسللت أطرافها من تحته في تمرد. أحست بخطواته تقترب، ثم رأته ينحني إلى جانبها ليتأمل وجه الصغيرة في حب :
ـ كيف حال ملاكي الصغير؟

تبادلا ابتسامة حانية، ثم تبعته إلى الحمام. وقفا أمام المرآة ينهيان طقوس الاستعداد إلى النوم الاعتيادية في تدافع مرح. رمت إليه قبلة و فمها يمتلئ برغوة معجون الأسنان، فتناثرت بقع بيضاء على قميص نومه. احتج متظاهرا بالغضب، و ما إن انحنت على الحوض لتغسل الرغوة، حتى اغتنم الفرصة ليجذبها من شعرها مداعبا... تعالى صراخها المختلط بالضحك، و انتهت الجولة برذاذ الماء، تنثره أصابعها على وجهه...

اندسا تحت اللحاف و لم تفارقهما الروح المرحة و استند كل منهما إلى وسادته. مدت ذراعها لتطفئ الفانوس، فعم الظلام الغرفة. استرخت أجسادهما و لم يعد يسمع إلا صوت أنفاسهما الهادئة. جاءها صوته في همس رقيق :
ـ هل أنت سعيدة؟

قالت في حرارة :
ـ جدا... سعيدة بك و بصغيرتنا، و سعادتي تكبر يوما عن يوم...

أحست بكفه تتسلل لتمسح على رأسها، فسألته بدورها :
ـ هل أنت راض عني؟

سمعت صوت تنهده قبل أن يهمس :
ـ راض عنك... مهما حصل...

أحست ببعض العتاب في صوته، فتذكرت الحادثة التي تعرضت لها ذلك الصباح. كانت قد تحصلت على رخصة السياقة منذ أيام قليلة، و أرادت أن تفاجئه بإخراج السيارة من المستودع دون مساعدة منه. لكنها لم تكن منتبهة بما فيه الكفاية، فاصطدمت مقدمة السيارة بعربة أخرى كانت تمر مسرعة عبر شارعهم. لم يعنفها، لكنها قرأت الغضب في ملامحه المحتقنة. كانت الأضرار التي لحقت السيارة جسيمة، لكنها خرجت من الحادثة بسلام و كذلك ركاب السيارة الأخرى.

هتفت على الفور :
ـ لازلت منزعجا بسبب الحادثة؟

تردد قبل أن يقول في استسلام :
ـ قليلا...

أخذت بكفيه بين كفيها، و رفعتهما إلى شفتيها لتطبع عليهما قبلة و هي تهمس :
ـ هذه يدي بيدك... لا أذوق غمضا حتى ترضى.

سحب كفيها ليقبلهما بدوره و قال في صدق :
ـ رضيت يا حياتي... رضيت. لا تهمني السيارة، لكنني خفت عليك !

استمر حديثهما كالعادة عن كل أحداث اليوم لبضع دقائق أخرى، ثم رددا معا أذكار النوم، قبل أن ينهيا يومهما بالدعاء... بأن يبارك الله في زواجهما و يديم المودة و الرحمة بينهما، و يحفظ طفلتهما و يجعلها من الذرية الصالحة. غلبهما النعاس في رضا، و ألسنتهما لم تتوقف عن الذكر.

فتحت عينيها حين سمعت صوته الهامس يناديها. ابتسمت و هي تحس بأصابعه تمسح على رأسها.
ـ عزيزتي... حان موعد الصلاة...

(3)

كانت سحنتها متجهمة حين وصلت إلى المكتب، متأخرة كعادتها. رحبت بها زميلتها و صديقتها المقربة بابتسامة متألقة. ردت التحية ثم تنهدت بصوت مسموع. لشد ما تغبطها على سعادتها التي تلمح آثارها على ملامحها و في كل تصرفاتها. اقتربت منها الأخرى و هي تسألها :
ـ ألم تحلي خلافك مع زوجك بعد؟

هزت رأسها علامة النفي :
ـ لم نتحدث البارحة. كان مشغولا جدا بعمله... و هذا الصباح، كان قد غادر حين استيقظت ! لم نعد حتى نجد الوقت لنتشاجر. الصمت المطبق يخيم على البيت... و أنا لم أعد أتحمل !

ـ قلت لك مرارا... بادري أنت و اعتذري !

ـ لكنه المخطئ !

هزت رأسها في أسف :
ـ لا يهم من بدأ بالخطأ. فكلاكما مخطئ الآن. و الله إنني لأعجب... كيف تجدين صعوبة في الاعتذار من زوجك و أنت تعلمين يقينا بأن رضا الله من رضا الزوج. إنها الجنة يا أختاه ! فهل تمنعنا كلمات يسيرة من الجنة؟ كما أن قلب الزوج يرق لزوجته حين تنكسر بين يديه و تعبر عن ندمها إن هي أخطأت في حقه، فيكون غضبه سريع التبخر. أما إن عاندت و تمسكت برأيها، و حاورته حوار الند للند، فهي تقيم الحرب في بيتها بنفسها. اعتذري منه حتى و أنت تعلمين بأنك على صواب. دعيه يلمس مقدار حبك له و حرصك على رضاه، و سترينه حينها يعتذر بدوره و يعترف بتقصيره عن طيب خاطر... دون رفع للأصوات أو عبوس و تنافر...

هتفت في اعتراض :
ـ و كرامتي؟

ـ لا وجود للكرامة بين الزوجة و زوجها. كرامتكما واحدة، فما يهينه يهينك. و الشجار بينكما يحط من قدركما معا و يلمس عزة نفس كل منكما. لذلك كوني أنت الرحمة في البيت... كوني المبادرة ليلتئم جرحكما معا.

كانت الآلام التي ملأت قلبها في الأيام الأخيرة قد استنفدت طاقتها. باتت قاب قوسين أو أدنى من الاقتناع. لكنها تكابر. قالت في حسرة :
ـ لم نعد نجد الوقت لنتحدث... يتهرب مني باستمرار...

أخفت تهربها منه هي الأخرى. في الحقيقة، لم تكن قد بحثت عن فرصة للحوار. فهي لم تكن تفكر في المبادرة قبل ذلك الحين. قالت صديقتها في يقين :
ـ عليك إذن بحديث الوسائد...

سألت في استغراب :
ـ حديث الوسائد؟

ـ تحدثي إليه قبل النوم، حين تأويان إلى الفراش. في تلك اللحظات، تكونان قريبين جسديا. و تكونان مسترخيين في وضعية النوم. تكلمي بهمس و بلهجة هادئة، و سيصل كلامك إلى قلبه بالتأكيد... تعلمين، حين أنجبت طفلتي، أصبحت هي تستحوذ على اهتمامي كله طوال اليوم. و أصبح من النادر أن أجد الوقت الكافي للجلوس إلى زوجي و الحديث بهدوء دون أن تقاطعنا ببكائها. لكننا لم نكن نستغني أبدا عن حديث الوسائد ذاك... بل لعله أصبح أكثر أهمية لدينا، لأنه تقريبا فرصتنا الوحيدة للتواصل و تجديد الطاقة...

استمعت إليها في اهتمام دون أن تقاطعها. هل يكون ذلك سر السعادة التي تنعم بها في حياتها الزوجية؟ ربما... لن تخسر شيئا بالتجربة...

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نساؤكم من أهل الجنة الودود الولود، العؤود على زوجها التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول لا أذوق غمضا حتى ترضى )) (السلسلة الصحيحة)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة)) وقال الترمذي حديث حسن.

Tuesday 21 December 2010

كلمات... ليست كالكلمات





ـ جزاك الله خيرا...

قالها حين وضعت أمامه طبق الطعام و ابتسامة ممتنة تزين شفتيه. لم أملك إلا أن أبتسم بدوري، رغم الألم الذي أصبح يلازمني في أعلى الفخذ كلما أطلت الوقوف في المطبخ. سألني في اهتمام و هو يلاحظ العرج الخفيف لساقي اليسرى :
ـ أنت بخير؟

تذكرت "المونولوج" الطويل الذي أعددته في نفسي للشكوى من الإرهاق بين عملي خارج البيت و داخله، و العتاب الثقيل حول عدم اهتمامه و إهماله و إلقاء الحمل علي وحدي... لكنني اكتفيت بابتسامة خفيفة و أنا أقول مهونة :
ـ تعب بسيط... سيذهب عني بعد وجبة جيدة.

وجدته يمسك بيدي و يجلسني إلى جانبه و هو يقول :
ـ ارتاحي أنت بعد العشاء... سأقوم بغسل الأطباق و تنظيف المطبخ.

و بدل أن أغتنم الفرصة التي جاءت دون عناء، هتفت في إصرار عجيب :
ـ أنا بخير حقا... لا تشغل نفسك بهذا، سأنتهي من كل شيء بسرعة.

تلك الليلة، و ككل ليلة، قمت بغسل الأواني و أعددت علبة غدائي و غدائه، قبل أن أنضم إليه في جلستنا الاعتيادية أمام التلفاز. قمت بذلك دون أدنى تذمر أو عصبية. كنت أشعر بالرضا رغم ألمي. فكأن كلماته اللطيفة كانت كفيلة بتهدئة كل الغضب الذي كان يعتمل بداخلي. هل كنت حقا أريد أن نتقاسم الأدوار في شغل البيت... أم أنني كنت أريد بعض العرفان، فقط لا غير؟ لكن الأكيد هو أنني اكتفيت باستعداده للمساعدة، و لم أطالب بتحويلها إلى فعل حقيقي...

في الغد، كنت لا أزال أفكر في تنازلي الساذج و اكتفائي بمجاملته اللطيفة، حين وصلت إلى مدخل الجامعة. لمحت عاملة التنظيف منهمكة في مسح الأرضية عبر الواجهة الزجاجية، ثم رأيت أحد الأساتذة يعبر الممر بخطى مسرعة، تتبعه نظرات العاملة الساخطة. توقفت عن العمل للحظات لتتمتم ببضع كلمات مبهمة تنم عن انزعاجها، ثم أطلقت تنهيدة طويلة قبل أن تغمس الممسحة في دلو الماء من جديد في حركة عنيفة. 

توجست خيفة و قد أدركت ما ينتظرني أنا الأخرى من وابل الغضب... و ما إن دفعت دفة الباب حتى وجدتها ترفع رأسها و تحدجني بنظرة مستهجنة. كان علي أن أعبر الممر الذي انتهت هي للتو من مسحه، للمرة العاشرة ربما... و لم تكن تلك عملية هينة. ابتسمت و أنا أحييها، ثم اهتممت بتنظيف أسفل حذائي في المدخل تحت معاينتها الدقيقة. كنت أريد أن أريها مدى احترامي لعملها. و حين مررت إلى جانبها توقفت للحظات لأقول بلهجة معتذرة :
ـ آسفة لأنني مضطرة إلى إفساد عملك... لكن لا يوجد طريق أخرى حتى أصل إلى مكتبي !

فما لبثت تكشيرتها أن تحولت إلى ابتسامة و هي تقول في لامبالاة :
ـ لا عليك... فأنا لم أنته من التنظيف على أية حال !

لم تفارق الابتسامة شفتي و أنا أبتعد عنها بخطوات واسعة. هل كانت هي الأخرى في حاجة إلى بعض العرفان حتى يتحول سخطها إلى رضا؟ لم تكن العملية معقدة، و لم تتطلب مني جهدا كبيرا. بضع كلمات بسيطة لا تكلفني شيئا، كانت كافية لتعيد إلى العاملة اعتبارها، و تشعرها بالرضا و هي تعيد تنظيف الممر من جديد.

شكرا. آسفة. من فضلك. عفوا. جزاك الله خيرا. بعد إذنك. عمل جيد. أحسنت. معذرة. ما شاء الله. جميل... كلمات تمرنت على توزيعها طوال اليوم، و كنت في كل مرة أدهش من البصمة الإيجابية التي تتركها من حولي.

حين اتصل بي زوجي في فترة بعد الظهر من ذاك اليوم، بادرني على الفور بسخائه الاعتيادي :
ـ كان الغداء لذيذا... سلمت يداك.

نظرت إلى علبة الغداء الخاصة بي و التي لا تزال نصف ممتلئة. حسن، لم أكن شديدة الرضا عن وجبة الغداء تلك، لكنني سررت لمجاملته. كان ذلك طبعه، الكلمة الطيبة تسبق النقد على لسانه. و كنت و لازلت أتعلم منه الكثير. سألني بصفة روتينية قبل أن ينهي المكالمة :
ـ هل تحتاجين شيئا أحضره في طريقي إلى البيت؟

تذكرت المعطف الذي تركته عند الحائكة لبعض التصليحات، و كان يجب أن أمر لأخذه منذ يومين. قلت في رقة :
ـ هل يمكنك المرور إلى محل الخياطة لاستلام معطفي؟

لم يكن المحل في طريق عودته، لكنني كنت مضطرة إلى التأخر بصفة استثنائية ذلك اليوم، و قد أصبحت في حاجة إلى المعطف مع اشتداد موجة البرد. حين لمست التردد و الامتعاض في صمته، هتفت على الفور :
ـ إن كان ذلك يشق عليك، فلا بأس... سأمر عليها في الغد.

قال في تسليم، و قد غلب مزاجه الحسن على انزعاجه من المسافة الإضافية التي سيكون عليه قطعها :
ـ لا بأس... سأفعل. هل من طلب آخر؟

لم يكن صوته ينطق بالسرور، لكنني قلت في امتنان :
ـ أنت رائع يا عزيزي... لا تنس أن تحاسبها...

قال الله تعالى (( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ))


Monday 20 December 2010

رصيدك يساوي صفر







كم أصبح رصيدي اليوم؟

رنت في رأسي الكلمات و أنا أقف أمام المصرف الآلي و أضغط على الأزرار مكونة الرقم السري لبطاقتي البنكية.  فاجأني الرصيد المنخفض الذي ظهر على الشاشة، فسارعت بطلب كشف دقيق للمعاملات المالية الخاصة بحسابي الشخصي طيلة الشهر الأخير. انتظرت إلى أن طبعت الآلة قائمة السحوبات و المصاريف، ثم أخذت أراجعها بدقة و تركيز. كان أملي كبيرا بأن أقف على خطأ ما أو على سحب مخالف لأرفع شكوى إلى البنك مباشرة... لكن أملي خاب و تحولت دهشتي إلى إحباط حين وجدت كل المعاملات سليمة. كنت أنا من قام بكل تلك السحوبات الصغيرة... و كل تلك الطلبات التي تم دفع ثمنها بالبطاقة البنكية، كنت أنا من طلبها دون شك !

طويت الورقة و وضعتها في محفظتي، و انصرفت متفكرة. أشياء كثيرة، نحسبها صغيرة و بسيطة لكنها بتراكمها تترك أثرا كبيرا. كم من مرة وقفت محتارة أمام فاتورة المشتريات الخيالية التي تتعارض بشدة مع محتويات العربة التي لا تتعدى اللوازم الأساسية و الأولية التي لا يستغنى عنها في كل بيت... و كم من مرة تملكني الارتباك و أنا أتطلع إلى حافظة نقودي التي فرغت دون أن أشعر، بعد جولة بسيطة في السوق...

ثم ذهبت أفكاري إلى مسائل أخرى، من نوع مختلف. ماذا عن تلك الصديقة التي قطعت علاقتي بها، بعد اختلاف بسيط طرأ بيننا؟ هل كان سبب ابتعادي عنها و مسحها من خارطة علاقاتي ذلك النقاش الأخير الذي تمسكت خلاله كل منا بموقفها دون أدنى تنازل؟ ليس الأمر كذلك... فقد بدأ السحب منذ فترة طويلة. نعم، كان رصيدها العاطفي لدي يتضاءل باستمرار. عبارة غير مستساغة من هنا، و ملاحظة سطحية من هناك. ثم بعض الاختلافات في وجهات النظر التي تخفي وراءها تباعدا في المرجعيات... ثم كانت القطرة التي أفاضت الكأس.  ربما كان بإمكاني المحاولة، لأفهمها و نصل إلى منطقة مشتركة، لكنني لم أفعل. تركتها ترحل ببساطة. هكذا و دون مقدمات، وجدتني أتكاسل في الاتصال بها و قد أرد على اتصالاتها بفتور. ثم انقطعت عني أخبارها... فلم أقلق و لم أفكر فيها. كأنها سقطت فجأة من قائمة اهتماماتي. و حين اكتشفت القطيعة الحقيقية التي حصلت بيننا، لم أهتم كثيرا. فقد كان رصيدها لدي قد وصل إلى الصفر بالفعل...

و ماذا عن رصيدي لدى الآخرين؟ كثيرا ما تصدر عنا ردود فعل نخالها بسيطة و بدون نتائج تذكر لكنها بتكرارها و تراكمها قد تترك أثرا سيئا عند الغير... رنت صفارة الإنذار في رأسي بصوت حاد. خطر ببالي زوجي، ذلك الشخص الذي أتعامل معه أكثر من أي كان... و الذي تهمني علاقتي به أكثر من علاقتي بأي كان ! كم مرة أجبته بجفاف و هو يسألني عن مكان إحدى الحاجيات في البيت؟ و كم مرة انصرفت عنه عابسة حين يواجهني بنقد رقيق؟ كم مرة تهربت من الاتصال بوالديه مختلقة أعذارا واهية؟ و كم مرة أبديت خيبتي و هو يقدم إلي هدية لم تكن في مستوى توقعاتي؟ و كم و كم و كم؟

أحسست بالدماء تغيض عن وجهي. ما حال رصيدي لديه الآن؟ كم بقي لدي قبل أن تنفد مدخراتي؟ هل بإمكاني أن أتدارك الوضع قبل أن نصل إلى طريق مسدود... إلى رصيد يساوي صفر؟ علي أن أجد حلا لأرفع الرصيد العاطفي من جديد ! أوقف السحوبات؟ لكن ذلك لا يكفي... فالأرصدة البنكية في حاجة إلى تزويد مستمر بالإيداعات لتحمّل المصاريف. لذلك علي بالإيداع في رصيدي العاطفي ما يكفي للتغطية على السحوبات المتواصلة...

في ذلك اليوم، حين عاد زوجي من العمل، وجدني أستقبله بابتسامة عريضة. هل كانت نظرة دهشة هي ما لمحته في عينيه و أنا أهب لأنزع عنه معطفه و آخذ منه حقيبته؟ ذلك المساء، لم أنغمس في تصحيح اختبارات طلبتي و نحن نجلس سويا أمام التلفاز. تركت العمل جانبا و أنا أذكر عتابه السابق بخصوص تنظيم أوقاتي عملي، و جلست أستمع في اهتمام إلى حديثه عن يومه الذي مضى. اجتهدت حتى لا أقاطعه كعادتي و أحول الاهتمام إلى أحداث يومي... ثم علقت بكلمات قليلة دون ثرثرة، و الابتسامة لا تفارق شفتي. لم أتذمر حين طلب مني أن أصب المزيد من الشاي في كأسه... الإبريق كان أمامنا على المائدة، و كنت أجد لذة غير معهودة في خدمته. فيما بعد، حين لمحني أتحدث على الهاتف، لم يحاول الإنصات و لا معرفة المتحدث... لكن حين اقتربت منه مبتسمة و مددت إليه السماعة، طالعني في استغراب، و تحول استغرابه إلى سرور و هو يستمع إلى صوت والدته من الطرف الآخر...

لم يكن علي أن أفعل الكثير حتى تكون أمسيتنا تلك من أجمل الأمسيات بيننا. كلمة طيبة، و ابتسامة و مبادرة لطيفة... أحسست على إثرها بالرضا و الاطمئنان. كنت أضع المزيد من الإيداعات في رصيدي. و لم يكن علي إلا أن أواصل على ذلك النسق حتى أضمن الابتعاد عن الإفلاس... و بشكل نهائي.