(1)
اقتربت من الغرفة على رؤوس أصابعها و ألقت نظرة عبر الباب نصف المفتوح. كان لا يزال منكبا على دفاتره و حاسوبه المحمول، لم يبد عليه الانتباه لوجودها. تنهدت بصوت مكتوم، ثم ابتعدت في صمت. أطفأت التلفاز الذي صارت تسامره وحيدة في الأيام الأخيرة، ثم جرت قدميها باتجاه غرفة النوم. ألقت بجسدها المرهق على السرير و غطت رأسها باللحاف، لتخنق العبرات التي عادت لتسيل على وجنتيها في سكينة. هل يستحق الخلاف الذي نشأ بينهما كل هذه القطيعة؟ بالكاد يتبادلان بضع كلمات في اليوم، منذ ارتفعت أصواتهما ذلك المساء في شجار عنيف. هو المخطئ ! أحرجها بملاحظاته السمجة أمام أخواته... فكان عليها أن ترد اعتبارها. كلمة من هنا، و أخرى من هناك... فإذا بالوضع ينفجر بينهما و تزداد الأمور سوءا يوما عن يوم. لكن لا... عليه أن يعتذر أولا. لن تقبل لذلك بديلا !
بعد دقائق قليلة، أحست بخطواته في الغرفة. كتمت أنفاسها و تظاهرت بالنوم. استلقى إلى جانبها موليا إياها ظهره، دون أن ينطق بكلمة واحدة. بعد لحظات من السكون، أحست به يتقلب في مكانه و يسحب اللحاف. يجافيه النعاس هو الآخر. أصبح الوضع ثقيلا على كليهما. علاقتهما تزداد فتورا و توترا... لكن لا أحد يبادر بالاعتذار و التنازل.
لا تدري كم مضى من الوقت قبل أن تهدأ تماما و يثقل النوم جفنيها. حين فتحت عينيها في الصباح، كانت أشعة الشمس قد تسللت عبر الستائر الخفيفة. تلفتت حولها في ذعر... فاتتها صلاة الفجر ! نظرت إلى المكان الخالي على السرير و تنهدت. لم يوقظها. دفعت عنها اللحاف في حزن و وقفت من فورها. نهار جديد من التعاسة...
(2)
ألقت نظرة على سرير طفلتها التي غطت في النعاس منذ ساعتين تقريبا. ابتسمت و هي تسوي لحفاها من جديد، بعد أن تسللت أطرافها من تحته في تمرد. أحست بخطواته تقترب، ثم رأته ينحني إلى جانبها ليتأمل وجه الصغيرة في حب :
ـ كيف حال ملاكي الصغير؟
تبادلا ابتسامة حانية، ثم تبعته إلى الحمام. وقفا أمام المرآة ينهيان طقوس الاستعداد إلى النوم الاعتيادية في تدافع مرح. رمت إليه قبلة و فمها يمتلئ برغوة معجون الأسنان، فتناثرت بقع بيضاء على قميص نومه. احتج متظاهرا بالغضب، و ما إن انحنت على الحوض لتغسل الرغوة، حتى اغتنم الفرصة ليجذبها من شعرها مداعبا... تعالى صراخها المختلط بالضحك، و انتهت الجولة برذاذ الماء، تنثره أصابعها على وجهه...
اندسا تحت اللحاف و لم تفارقهما الروح المرحة و استند كل منهما إلى وسادته. مدت ذراعها لتطفئ الفانوس، فعم الظلام الغرفة. استرخت أجسادهما و لم يعد يسمع إلا صوت أنفاسهما الهادئة. جاءها صوته في همس رقيق :
ـ هل أنت سعيدة؟
قالت في حرارة :
ـ جدا... سعيدة بك و بصغيرتنا، و سعادتي تكبر يوما عن يوم...
أحست بكفه تتسلل لتمسح على رأسها، فسألته بدورها :
ـ هل أنت راض عني؟
سمعت صوت تنهده قبل أن يهمس :
ـ راض عنك... مهما حصل...
أحست ببعض العتاب في صوته، فتذكرت الحادثة التي تعرضت لها ذلك الصباح. كانت قد تحصلت على رخصة السياقة منذ أيام قليلة، و أرادت أن تفاجئه بإخراج السيارة من المستودع دون مساعدة منه. لكنها لم تكن منتبهة بما فيه الكفاية، فاصطدمت مقدمة السيارة بعربة أخرى كانت تمر مسرعة عبر شارعهم. لم يعنفها، لكنها قرأت الغضب في ملامحه المحتقنة. كانت الأضرار التي لحقت السيارة جسيمة، لكنها خرجت من الحادثة بسلام و كذلك ركاب السيارة الأخرى.
هتفت على الفور :
ـ لازلت منزعجا بسبب الحادثة؟
تردد قبل أن يقول في استسلام :
ـ قليلا...
أخذت بكفيه بين كفيها، و رفعتهما إلى شفتيها لتطبع عليهما قبلة و هي تهمس :
ـ هذه يدي بيدك... لا أذوق غمضا حتى ترضى.
سحب كفيها ليقبلهما بدوره و قال في صدق :
ـ رضيت يا حياتي... رضيت. لا تهمني السيارة، لكنني خفت عليك !
استمر حديثهما كالعادة عن كل أحداث اليوم لبضع دقائق أخرى، ثم رددا معا أذكار النوم، قبل أن ينهيا يومهما بالدعاء... بأن يبارك الله في زواجهما و يديم المودة و الرحمة بينهما، و يحفظ طفلتهما و يجعلها من الذرية الصالحة. غلبهما النعاس في رضا، و ألسنتهما لم تتوقف عن الذكر.
فتحت عينيها حين سمعت صوته الهامس يناديها. ابتسمت و هي تحس بأصابعه تمسح على رأسها.
ـ عزيزتي... حان موعد الصلاة...
(3)
كانت سحنتها متجهمة حين وصلت إلى المكتب، متأخرة كعادتها. رحبت بها زميلتها و صديقتها المقربة بابتسامة متألقة. ردت التحية ثم تنهدت بصوت مسموع. لشد ما تغبطها على سعادتها التي تلمح آثارها على ملامحها و في كل تصرفاتها. اقتربت منها الأخرى و هي تسألها :
ـ ألم تحلي خلافك مع زوجك بعد؟
هزت رأسها علامة النفي :
ـ لم نتحدث البارحة. كان مشغولا جدا بعمله... و هذا الصباح، كان قد غادر حين استيقظت ! لم نعد حتى نجد الوقت لنتشاجر. الصمت المطبق يخيم على البيت... و أنا لم أعد أتحمل !
ـ قلت لك مرارا... بادري أنت و اعتذري !
ـ لكنه المخطئ !
هزت رأسها في أسف :
ـ لا يهم من بدأ بالخطأ. فكلاكما مخطئ الآن. و الله إنني لأعجب... كيف تجدين صعوبة في الاعتذار من زوجك و أنت تعلمين يقينا بأن رضا الله من رضا الزوج. إنها الجنة يا أختاه ! فهل تمنعنا كلمات يسيرة من الجنة؟ كما أن قلب الزوج يرق لزوجته حين تنكسر بين يديه و تعبر عن ندمها إن هي أخطأت في حقه، فيكون غضبه سريع التبخر. أما إن عاندت و تمسكت برأيها، و حاورته حوار الند للند، فهي تقيم الحرب في بيتها بنفسها. اعتذري منه حتى و أنت تعلمين بأنك على صواب. دعيه يلمس مقدار حبك له و حرصك على رضاه، و سترينه حينها يعتذر بدوره و يعترف بتقصيره عن طيب خاطر... دون رفع للأصوات أو عبوس و تنافر...
هتفت في اعتراض :
ـ و كرامتي؟
ـ لا وجود للكرامة بين الزوجة و زوجها. كرامتكما واحدة، فما يهينه يهينك. و الشجار بينكما يحط من قدركما معا و يلمس عزة نفس كل منكما. لذلك كوني أنت الرحمة في البيت... كوني المبادرة ليلتئم جرحكما معا.
كانت الآلام التي ملأت قلبها في الأيام الأخيرة قد استنفدت طاقتها. باتت قاب قوسين أو أدنى من الاقتناع. لكنها تكابر. قالت في حسرة :
ـ لم نعد نجد الوقت لنتحدث... يتهرب مني باستمرار...
أخفت تهربها منه هي الأخرى. في الحقيقة، لم تكن قد بحثت عن فرصة للحوار. فهي لم تكن تفكر في المبادرة قبل ذلك الحين. قالت صديقتها في يقين :
ـ عليك إذن بحديث الوسائد...
سألت في استغراب :
ـ حديث الوسائد؟
ـ تحدثي إليه قبل النوم، حين تأويان إلى الفراش. في تلك اللحظات، تكونان قريبين جسديا. و تكونان مسترخيين في وضعية النوم. تكلمي بهمس و بلهجة هادئة، و سيصل كلامك إلى قلبه بالتأكيد... تعلمين، حين أنجبت طفلتي، أصبحت هي تستحوذ على اهتمامي كله طوال اليوم. و أصبح من النادر أن أجد الوقت الكافي للجلوس إلى زوجي و الحديث بهدوء دون أن تقاطعنا ببكائها. لكننا لم نكن نستغني أبدا عن حديث الوسائد ذاك... بل لعله أصبح أكثر أهمية لدينا، لأنه تقريبا فرصتنا الوحيدة للتواصل و تجديد الطاقة...
استمعت إليها في اهتمام دون أن تقاطعها. هل يكون ذلك سر السعادة التي تنعم بها في حياتها الزوجية؟ ربما... لن تخسر شيئا بالتجربة...
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نساؤكم من أهل الجنة الودود الولود، العؤود على زوجها التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول لا أذوق غمضا حتى ترضى )) (السلسلة الصحيحة)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة)) وقال الترمذي حديث حسن.